الجمعة، أكتوبر 26، 2007

خطورة اللعب مع الإخوان * حسن نافعة

خطورة اللعب مع الإخوان * حسن نافعة
تمارس الدولة المصرية مع جماعة الإخوان المسلمين لعبة سياسية أقل ما يقال فيها أنها غامضة وملتبسة وباتت ، من فرط عشوائيتها ، تهدد المشهد السياسي كله بالفوضى ، وتصادر على أي أمل بإرساء قواعد واضحة لنظام سياسي محدد الهوية ، راسخ الآليات ، ومقبول من كافة الأطراف والتيارات الفكرية والحركية في المجتمع الذي يقوده ويفترض ان يعبر عنه. وتشير أحداث ووقائع الشهور والأسابيع الماضية إلى أن جديدا طرأ على نمط العلاقة القائم بين الدولة المصرية وجماعة الإخوان حيث اتخذت الدولة ، فيما يبدو ، قرارا بالدخول في مواجهة أمنية شاملة مع الجماعة على أمل القضاء عليها نهائيا هذه المرة. وكان جهاز الأمن في مصر قد انقض منذ شهور قليلة على عدد من المفاصل الموالية والتنظيمية للجماعة وصدر قرار سياسي بمحاكمة أهم وأبرز العناصر الممسكة بهذه المفاصل أمام محكمة عسكرية بتهمة التورط في عمليات "لغسيل الأموال" ، ثم عاد منذ أسابيع لينقض على عدد آخر من المفاصل السياسية والفكرية للجماعة ويلقي القبض على أهم الممسكين بها ، ولكن بتهمة الانتماء إلى جماعة محظورة هذه المرة،.
وإن دلت هذه التطورات على شيء فإنما تدل على رغبة في تغيير نمط العلاقة القائم منذ حين بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين. ومن المعروف أن العلاقة بين الدولة والإخوان في عهد الرئيس مبارك كانت قد استقرت وفق نمط معين يسمح للجماعة بدور سياسي غير مقنن وبهامش من حرية الحركة السياسية ، تحدد الدولة سقوفه وخطوطه من جانب واحد ولكن دون معايير أو مقاييس واضحة أو متفق عليها. غير أن الدولة عادت وقررت لأسباب مجهولة الدخول في مواجهة مفتوحة ومستمرة مع الجماعة ، وهو أمر بدا واضحا خصوصا عقب تصريح الرئيس مبارك بأن الجماعة باتت تشكل "خطرا على أمن مصر القومي". صحيح أن هذه المواجهة ما تزال من طرف واحد حتى الآن ولم تتحول بعد ، لحسن الحظ ، إلى مواجهة متبادلة. دليلنا على ذلك أن الحكومة المصرية لم تكشف بعد عن مؤامرة سرية تقوم بها "الجماعة المحظورة" لقلب نظام الحكم ، كما لا يوجد ، في حدود علمنا ، قرار من جانب الجماعة بالرد على العنف بالعنف. ومع ذلك أعتقد أنه ليس بوسع أحد أن يضمن استمرار التزام الجماعة بسياسة ضبط النفس وتحمل ضربات موجعة في ظروف محلية وإقليمية ودولية كالتي تعيشها الأمة العربية والإسلامية حاليا. فقد يكون الرد على العنف بالعنف أمرا واردا أو حتى مشروعا بالنسبة للبعض ، بسبب حجم الهواجس والقلق وعدم الاطمئنان مما قد تخبئه قوادم الأيام والتي تضطرم بها النفوس في المرحلة الحالية ، خصوصا وأن فترة الشهور الست المقبلة تبدو مشحونة بأسباب توتر ، بعضها ظاهر وأكثرها كامن ، باتت تمسلك بتلابيب المنطقة من أقصاها إلى أقصاها.المواجهة القائمة حاليا بين الدولة المصرية و جماعة "الإخوان المسلمين" ليست الأولى ، والأرجح أنها لن تكون الأخيرة. فمن المعروف أن هذه "الجماعة" ، والتي كانت قد لقيت ترحيبا عاما عند تأسيسها على يد حسن البنا عام 1928 باعتبارها جماعة دينية تدعو للمعروف وتنهى عن المنكر ، ما لبثت أن راحت تصتدم بالنظام منذ تحولها إلى قوة سياسية تسعى للوصول السلطة باعتباره ضرورة لإقامة النموذج المجتمعي الذي تؤمن به. اللافت للنظر هنا أن صدام الجماعة مع النظام ، والذي اتخذ طابعا دمويا أحيانا وقمعيا أحيانا أخرى ، جرى في كل العهود والمراحل ، بصرف النظر عن طبيعة النخبة الحاكمة أو توجهاتها الفكرية والأيديولوجية أو سياساتها الداخلية والخارجية. ففي العهد الملكي دخلت الجماعة في مواجهة شاملة مع النظام عام 1949 ، في وقت كانت النخبة الحاكمة تتبنى خطا "ليبرالي" التوجه ، وفي الحقبة الناصرية دخلت الجماعة مرتين في مواجهة شاملة مع النظام:
الأولى عام 1954 والثانية عام 1965 ، بينما كانت نخبته الحاكمة تتبنى خطا وطنيا مستقلا أو خطا اشتراكيا مواليا للاتحاد السوفييتي ، وفي الحقبة الساداتية دخلت الجماعة عام 1981 في مواجهة شاملة مع النظام في وقت كانت النخبة الحاكمة تتبنى خطا محافظا ومواليا للولايات المتحدة وإسرائيل. وها هي بوادر مواجهة شاملة تتجمع في الأفق عقب فترة هدنة طالت كثيرا مع النظام في عهد الرئيس مبارك ، في وقت تسير فيه النخبة الحاكمة على نفس النهج المتبع منذ عهد الرئيس السادات وتصر في الوقت نفسه على نقل السلطة لنجل الرئيس ضمانا لاستمرار احتكارها للسلطة والثروة. قد يرى البعض في المواجات المتكررة بين جماعة الإخوان المسلمين وبين مختلف فصائل النخبة التي تعاقبت على حكم مصر منذ الربع الثاني منذ القرن الماضي دليلا على أن المشكلة تكمن في فكر الجماعة وفي بنيتها التنظيمية ، وربما أيضا في السياسات والتكتيكات والوسائل التي تبنتها للوصول إلى غاياتها ، وهو ما لا نستبعده ابتداء. فمن الواضح أن الجماعة عجزت عن التأقلم مع التطور الذي شهدته الساحة المجتمعية في مصر ، كما عجزت عن طرح صيغة تمكنها من تجنب هذا النمط من العلاقة الدامية والمستمرة مع كل فصائل النخبة ، على نحو ما حدث في تركيا على سبيل المثال. غير أن هذا الأمر لا يشكل إلا وجها واحدا من وجوه الحقيقية. فالواقع أن الفشل لا يقتصر على الجماعة وحدها وإنما هو كامن كذلك في بنية النظام السياسي المصري نفسه. فقد عجز هذا النظام عن التحول إلى نظام ديمقراطي قادر على استيعاب الجماعة ، ومعها التيار الإسلامي المعتدل ، بداخله والقبول بقواعد لعبة سياسية على اساس من تداول السلطة. وقد سبق لي أن أشرت في مقال سابق إلى أنه آن الأوان لاستخلاص الدروس الصحيحة المستفادة من هذه المواجهة ، والتي لخصتها في عدة أمور. الأمر الأول:
أن جماعة الإخوان ولدت لتبقى ولم يعد بمقدور أحد استئصالها من تربة الحياة السياسية والاجتماعية المصرية التي أصبحت متجذرة فيها. والأمر الثاني: أن الضربات المتلاحقة لا تزيد الجماعة إلا إصرارا وقوة ، وأن حظر وجودها وتجريمها ودفعها للعمل تحت الأرض يجعلها أكثر تطرفا وانكفاء على نفسها وأقل قدرة على التواصل والحوار مع الآخرين. والأمر الثالث: أن التضييق على بقية الفصائل السياسية الأخرى غير المشاركة في الحكم يصب في نهاية المطاف لصالح جماعة الإخوان وحدها ، على عكس ما قد يبدو ظاهرا فوق السطح ، ويجعل منها البديل الوحيد للنظام القائم ، خصوصا عندما لا يكون لدى هذا الأخير مشروعا وطنيا تلتف حوله الطبقة الوسطى على نحو ما تتسم به المرحلة الحالية. كما سبق أن أشرت إلى أن نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة أكدت وجود حالة استقطاب سياسي ، خطرة جدا ، بين جماعة الإخوان من ناحية والحزب الحاكم من ناحية أخرى. ذلك أن أيا من طرفي الاستقطاب القائم حاليا لا يشكل حزبا سياسيا بالمعنى الدقيق وبالتالي قد لا يكون قادرا أو مؤهلا لطرح مشروع وطني بالمعنى السياسي أو الاجتماعي للكلمة. فالقوة الظاهرة للحزب الحاكم تعكس في الواقع قوة الجهاز الأمني والإداري للدولة بأكثر مما تعكس حجم التأييد الجماهيري لبرنامجه السياسي ، والقوة النسبية الظاهرة لجماعة الإخوان تعكس قوة الدين في المجتمع بأكثر مما تعكس حجم التأييد الجماهيري لهذه الجماعة.وبين نخبة حاكمة تحاول فرض هيمنتها المنفردة بعنف أجهزة القمع ، وجماعة معارضة تحاول التصدى لهذه الهيمنة بقيم الدين ، توجد حالة فراغ سياسي مخيف تحول دون تمكين أغلبية صامتة تمثل ثلاثة أرباع الناخبين من تنظيم صفوفها والنزول إلى ساحة العمل السياسي ، وهو ما أكدته نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة. ويبدو واضحا أن هذه الأغلبية تأمل في كسر احتكار النخبة الحاكمة للسلطة والثروة ، غير أنها لا تبدو مطمئنة في الوقت نفسه لجماعة الإخوان ، وهو وضع تحاول النخبة الحاكمة استغلاله وتوظيفه لمصلحتها ، وذلك بإظهار الجماعة وكأنها فزاعة تخيف بها القوى الراغبة في التغيير والحيلولة بالتالي دون حدوث أي تداول حقيقي للسلطة.وهنا تكمن مفارقة تجعل الوطن يبدو محشورا بين مطرقة الحزب الوطني وسندان الجماعة. فالحزب الوطني يحتاج إلى تضخيم خطر الإخوان للتهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي ولتكريس احتكاره للسلطة والثروة ، والقمع الواقع على الإخوان يحول الجماعة في ظل الفراغ السياسي القائم إلى ضحية وإلى بديل وحيد محتمل للنظام القائم. وقد سبق أن أكدت في مقالي السابق المشار إليه إلى أن هذا البديل لن يأتي بالطريق السلمي وإنما في نهاية مرحلة من الاضطراب والفوضى يبدو أن النظام الحالي يسوقنا إليها لا محالة.إنني أود أن أؤكد هنا مرة أخرى على أنني لست من الذين يعتقدون أن جماعة الإخوان المسلمين تشكل بذاتها خطرا على الوحدة الوطنية أو عقبة أمام إطلاق مشروع للتحديث والنهضة في مصر. الخطر الحقيقي هو استئثار طرف واحد ، أيا كان ، بالسلطة واستئثاره بها. فالانفراد بالسلطة يقود حتما إلى تركيزها في يد فرد واحد يتحول بحكم طبيعة الأشياء إلى مستبد يشل عمل المؤسسات ويحول دون تطويرها. ولأن الاستبداد هو أقصر الطرق لشيوع وانتشار الفساد ، فسوف يستحيل ، في تقديري ، إقامة مجتمع ديمقراطي حقيقي من دون مشاركة نشطة وفعالة من جانب تيار الإسلام السياسي بشكل عام وليس جماعة الإخوان فقط. غير أن الأمانة تقتضي أن أؤكد هنا في الوقت نفسه على أنه يستحيل على تيار الإسلام السياسي ، وفي المقدمة منه جماعة الإخوان ، أن يصبح طرفا مشاركا في الجهود الرامية إلى إقامة نظام سياسي ديمقراطي حقيقي ما لم يتحول إلى حزب سياسي مدني يقبل بمبدأ المواطنة وينبذ العنف كوسيلة للوصول إلى السلطة.وقد سبق أن أشرت إلى حوارات كانت قد جرت في خضم جهود شاركت فيها واستهدفت قيام "جبهة وطنية من أجل التغيير" ولدت لدي إحساسا عميقا بأن المشكلة لا تكمن في جماعة الإخوان المسلمين بقدر ما تكمن في النظام السياسي القائم. فهذا النظام لا يرغب في قيام أي أحزاب سياسية تتمتع بقواعد شعبية حقيقية ، سواء كانت مرجعيتها الفكرية إسلامية أو مدنية. الدليل على ذلك أن أحزابا مثل الوسط والكرامة ما تزال تناضل في دهاليز القضاء منذ عشر سنوات للحصول على رخصة رسمية تسمح لها بمباشرة النشاط. وقد يبدو غريبا أن ينقض الحزب الحاكم على الجماعة في وقت تبدو فيه أكثر استعدادا من أوقت مضى لحسم ترددها والتحول إلى حزب سياسي مدني ذي مرجعية إسلامية. ولذلك لا أتردد في تحميل المجتمع المدني في مصر جانبا من المسؤولية عما يحدث الآن بسبب إخفاقه في العثور على صيغة مبتكرة تسمح بتبديد الشكوك المتادلة بين الإخوان والقوى الراغبة في التحول الديمقراطي ، وهو شرط يستحيل في غيابه إقامة نظام ديمقراطي يسمح بتداول سلمي للسلطة. لقد سبق لي أن أكدت أكثر من مرة أنه لا أمل في قيادة الحزب الوطني لعربة الإصلاح السياسي في مصر ، لكن أين المجتمع المدني؟ هل يظل المجتمع المدني في مصر جالسا القرفصاء حتى وقوع الكارثة القادمة؟