رواية انتخابية من صعيد مصر – مواقف وشهادات من أبناء البلد
لم تمضِ سنوات طويلة على انتخابات عام 1987 حتى وقعت أحداث جديدة، حين أخبرني والدي ذات يوم عام 1989 أنه قابل السيد مصطفى عامر صدفة في موقف السيارات، وطلب منه أن يصطحبه في طريق العودة إلى البلدة. خلال الرحلة، سأل مصطفى عامر والدي عني بالاسم، مشيرًا إلى أنني كنت أدرس في كلية الهندسة. ثم أبدى ملاحظة مفادها أنني أقف مع الدكتور نبيل الجارحي في الانتخابات، معبرًا عن تفضيله ألا أشارك، لأن الدكتور نبيل كان يخوض الانتخابات في مواجهة مرشح الحزب الوطني.
في الحقيقة، لم أكن أعلم وقتها بترشّح الدكتور نبيل، لكن المعلومة كانت قد وصلت إلى السيد مصطفى عامر على ما يبدو من مصادره. وعندما أخبرني والدي بالأمر، سعدتُ، وقلت له: "هو الدكتور نبيل نازل فعلاً؟"، فقال: "أيوه... بس مالكش دعوة بالانتخابات وخلّيك في مذكرتك." لكنّي أدركت من لهجة أبي أن الأمر لم يكن نابعًا من قناعة، وإنما رغبة في تجنب الحرج.
كانت والدتي تستمع للحوار، فقالت لأبي: "مالك بيه، سيبه براحتُه." وقد شعرت وقتها أن والدتي فرحت بالخبر، فالدكتور نبيل هو ابن خالها، وله عندها مكانة عزيزة.
ذهبتُ إلى بيت الدكتور نبيل لاستطلاع الأمر، فلم أجده، وكان الخبر لا يزال طازجًا في البلد. وفي مساء اليوم نفسه، عُقد اجتماع ضم أعيان البلد وممثلين من معظم العائلات، حضره عمي محمد يعقوب، وطرح فيه السيد مصطفى عامر وجهة نظره بأن الدكتور نبيل ترشّح دون استئذان أو تشاور مع أهل البلدة، وأنه بذلك يعارض مرشح الحزب الوطني، الأمر الذي قد يسبب إشكالاً مع الدولة ويؤثر على وضع القرية. وأضاف أن الدكتور لو كان قد طلب الدعم منه لكان سهّل له الأمور من خلال الحزب.
وانتهى الاجتماع بقرار جماعي بعدم مساندة الدكتور نبيل وتركه يخوض التجربة وحده، بدعوى أن في ذلك "تأديبًا له".
وعندما عاد الدكتور نبيل إلى البلد، فوجئ بأجواء تشبه الحظر، رغم أنه لم يرشّح نفسه ضد مصطفى عامر. وكان موقف أنصاره أن الدكتور نبيل هو ابن البلد وأولى بالدعم، خاصة أن الحجة في الماضي كانت أن ابن البلد أحق، فلماذا تتغيّر المبادئ الآن؟
وانقسمت البلدة إلى نصفين: مؤيدين لموقف مصطفى عامر، وآخرين داعمين للدكتور نبيل، وبدأت الحركة داخل كل طرف لتغيير موازين المعركة.
لكن المفاجأة جاءت من أبناء عم مصطفى عامر، أحمد بكري عامر، وأخيه عز الدين بكري عامر، بالإضافة إلى عائلة رفاعي، أخوالهم، الذين وقفوا للمرة الأولى ضد مصطفى عامر، بسبب زواجه الثاني من زوجة ابن عمّه المرحوم عادل مجدي عامر بعد وفاة زوجته الأولى. وقد اعتُبر هذا الزواج غير معلن، وسبب استياءً شديدًا داخل العائلة.
وكان من المفترض أن يترشّح أحمد بكري عامر ضد مصطفى عامر في الانتخابات القادمة، لكن ظهرت الفرصة لمعاقبته في هذه الدورة بدعم الدكتور نبيل. وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة العائلية بين الجارحي وآل عامر كانت قائمة أصلًا، فالدكتور نبيل قريب مباشر لأحمد وعز، كما أن عز الدين بكري عامر كان صديق دفعة للدكتور نبيل.
أصبحت منطقة غرب البلد، التي تسكنها عائلة رفاعي، قاعدة دعم قوية للدكتور نبيل. وعندما عاد الدكتور إلى البلد، بادر أحمد بكري بالاجتماع معه وقال له: "إحنا معاك قلبًا وقالبًا، ولو عايز سلاح إحنا تحت أمرك." لكن الدكتور نبيل، بردّه المتزن، قال: "نحن أهل، ولا يمكن أن نصل بالخلاف مع مصطفى عامر إلى هذا الحد، وأنا لا أطلب منصبًا ولا جاهًا، وإنما جاء ترشيحي تحت ضغط أصدقاء لي من الإخوان لمواجهة الفساد والاستبداد، والأمر كله أجر واحتساب."
رافقتُ الدكتور نبيل في زياراته لعائلات مختلفة، وكان أولها إلى بيت الحاج فكري توفيق أبو الحاج علي رحمه الله، صديق جدي الحاج عبد المنعم ضاهر. وبمجرد أن دخلنا، قال له: "أهلًا بابن بنت الغالي." وبدأ يحدّثه عن جدي، ويسترجع معه الذكريات. لم أكن أتوقع أن ذكرى جدي ستؤثّر في اللقاء، لكنها فعلت.
ولاحقًا تبيّن لنا أن جدي متزوج من اعتدال الجارحي، عمة الدكتور نبيل، فتداخلت الروابط النسبية والعاطفية، وبرزت أمامي تلك اللحمة المتينة التي تربط بين عائلات البلدة. كلما تأملت ذلك، ازداد يقيني بمعنى قوله تعالى: ﴿وهو الذي خلق من الماء بشرًا فجعله نسبًا وصهرًا﴾.
ومن المواقف اللافتة أن عمّي فكري توفيق ألقى كلمات مؤثرة أثناء اللقاء، تحدث فيها بلغة عربية فصيحة، مستشهدًا بأبيات من شعر شوقي وحافظ إبراهيم، مؤكدًا أنه مع الدكتور نبيل لأنه يرى فيه رمزًا للرجولة والنقاء.
كما زرنا بيوتًا أخرى، منها بيت الحاج محمود محمد حسن إسلامان، وتبيّن أن الوحيد الذي وقف مع مصطفى عامر من عائلة رفاعي كان الحاج محمد عبد الرحمن رفاعي.
مرت الأيام ثقيلة حتى يوم الانتخاب. زار الدكتور نبيل قرى كثيرة من مركز سمالوط، مثل قلوصنا، حيث وقف العمدة رشدي مع شعار "الإسلام هو الحل" تأييدًا للدكتور نبيل، رغم أنه كان من الحزب الوطني، لكنه قال بوضوح: "أنا طبعًا تبع الحزب، لكن الدكتور ابن خالي، والدم ما بيطلعش من لحمه."
كانت الدائرة الانتخابية جديدة علينا، إذ شملت بندر المنيا ومركز سمالوط. لم يكن الدكتور نبيل متحمسًا في البداية لخوض المعركة، لكن بعد ضغوط من أصدقائه، خاضها بكل صدق. وجد دعمًا كبيرًا من عدد من أفراد العائلة، منهم أخوه يحيى الجارحي، والدكتور عصام الجارحي من مستشفى الحسين الجامعي، والدكتور فخري الجارحي وآخرون.
أما نحن – طلاب الإصلاح – فلم نكن نقف مع الدكتور نبيل تعصبًا، بل طمعًا في الأجر.
في تلك الأثناء، انقسم الحزب الوطني داخليًا في مقعد العمال، بين مرشح من بندر المنيا وآخر من سمالوط مدعوم من مصطفى عامر. تصاعد التوتر، ووصل إلى مستوى عالٍ، حتى تدخّل أحد الوزراء من قبل الوزير كمال الشاذلي لعقد اجتماع مع الأطراف.
علمنا أن بعض أنصار أحد المرشحين كانوا على استعداد لاستخدام القوة إذا لم يُقبل مرشحهم. لكن الاجتماع انتهى بتسوية، بعدما أوضح مصطفى عامر أن السيطرة على الحشود قد لا تكون مضمونة في حال رفض مرشحه.
كما علم الدكتور نبيل باتصال من اللواء أحمد راسخ، مساعد وزير الداخلية للانتخابات وابن عمته، قال فيه: "لماذا لم تخبرني بنيتك؟ كنت ساعدتك على الفور." وعرض عليه الانضمام للحزب الوطني مقابل دعم رسمي، لكن الدكتور نبيل شكر له ذلك واعتذر بأدب.
أما قضية اعتقال الأستاذ سعد من نزلة إسطال، فقد أشيع أنها كانت بدوافع سياسية. ورغم عدم وجود إثبات مباشر، إلا أن مصطفى عامر تأثّر من الأمر لاحقًا، وقيل إنه لم يكن راضيًا عنه.
ختامًا، لم يكن ترشيح الدكتور نبيل الجارحي، عمّي وكبير عائلة ريان، مجرد حملة انتخابية، بل كان شهادة حيّة على التداخل العائلي والاجتماعي والسياسي في صعيد مصر. لم يكن الترشّح ضد أحد، بل كان موقفًا إصلاحيًا واعيًا، وقد خاضه بكل احترام، دون خصومة أو تجاوز، واضعًا في اعتباره أن الجميع أبناء بلد واحد.
بقلم: علي بكساوي